المماليك .. حدث قبل مئتي عام

أوت 20, 2011

المماليك.. حدث قبل مئتي عام
بسام الهلسه

هذه المقالة عن المماليك، ولاعلاقة لها بالانظمة العربية المعاصرة. وإن لاح لبعض القراء تشابه ما، فهو من باب المصادفات غير المقصودة، أو مكر التاريخ الذي قيل انه يتبدى مرة على شكل مأساة، ومرة ثانية على شكل ملهاة.
ففي العام 1811 للميلاد أوقع بهم والي مصر “محمد علي باشا” في “مذبحة القلعة” المشهورة، وهو الذي كان دعاهم لحضور الاحتفال بتسيير جيشه إلى الجزيرة العربية لمواجهة “الدولة السعودية الاولى” التي اقلقت “الباب العالي العثماني” وزعزعت هيبته، بعدما افتتحت الحجاز الشريف ونشرت سلطتها وفتاوى شيخها “محمد بن عبدالوهاب” عليه.
* * *
انهت المذبحة آخر ما تبقى من نفوذ داخلي للمماليك في مصر، فقد كانت الجيوش العثمانية بقيادة السلطان “سليم الاول”- المعروف لدى الاتراك بلقبه “ياووز”، أي “القاطع”- قد الحقت بهم وبسلطانهم “قانصوه الغوري” الهزيمة في معركة “مرج دابق” قرب مدينة حلب في شمال سورية في العام 1516م، وواصلت زحفها إلى مصر، لتنهي دولتهم التي حكمت أقاليم مصر والشام والحجاز واليمن لاكثر من قرنين ونصف القرن، ولتعلق آخر سلاطينهم ” طومان باي” على “باب زويلة”، احد ابواب القاهرة القديمة التي بناها الفاطميون، بعدما رفض بإباء القبول بالخضوع للعثمانيين كوَالٍ تابع لهم، رغم هزيمته في موقعة “الريدانية”.
* * *
وللانصاف، ربما ينبغي القول هنا ان الحرص على الاستقلال ورفض التبعية، كان صفة ملازمة لعهد المماليك منذ تولى قائدهم العسكري الأتابك “عزالدين ايبك” السلطنة في مطلع النصف الثاني من القرن الثالث عشر بتدبير من السيدة المتنفذة القديرة “شجرة الدر” زوجة آخر السلاطين الايوبيين.
وقد تجلى هذا في مواجهتهم للاعصار المغولي الزاحف المُدمر وصدِّه في معركة “عين جالوت”، وفي اجهازهم على ما تبقى من امارات وقلاع صليبية في بلاد الشام. وهاتان مأثرتان خالدتان عرفتهما وحفظتهما لهم الاجيال بتقدير كثير.
غير ان ما اثار نفور الناس منهم وسخطهم عليهم، كان تعاملهم مع العباد والبلاد كممتلكات خاصة ظفروا بها، فاستباحوها وتصرفوا فيها على هواهم، المتقلب غالباً، بسبب عجزهم عن بناء نظام مستقر ثابت، وشيوع المنازعات والانقلابات الدورية في صفوف طبقتهم العسكرية المنفصلة عن السكان وذات الامتيازات الخاصة المُطلقة، وما كان يصحبها ويلحقها من تصفيات واضطرابات تهدد أمن الدولة وسلامة الأهالي المغلوبين على امرهم.
* * *
ومع حرصهم على استثمار البلاد باقامة المشاريع العمرانية بين حين وآخر- والتي ما زالت بقايا منها في مصر والشام- الا انهم اخفقوا في حفظ مكانة ودور الدولة والبلاد الواقعة في سلطانهم، والدفاع عن مجالاتها الحيوية في وجه التغلغل والزحف البرتغالي المتنامي بقوة اثر اكتشاف طريق “رأس الرجاء الصالح” الموصل إلى افريقيا والهند والصين، مما آذن بعزل مصر والشام واليمن كأقاليم وسيطة مهمة وفاعلة في التجارة الدولية، واحتلال سواحل الخليج العربي، وحتى تهديد الحجاز.
* * *
بسقوط دولتهم، تولى وارثوهم العثمانيون مهمة الدفاع عن المنطقة التي بسطوا سلطانهم عليها واعلنوا من بعد انهم الخلفاء الشرعيون للمسلمين. غير انهم – وبخاصة بعد “سليمان القانوني” أحد اعظم سلاطينهم- لم يبذلوا ايما جهد جاد لتحسين وضع المنطقة والارتقاء بأحوالها، فأخذت تتردى في الانحطاط والبؤس والجهل، فيما كانت اوروبا تجدد نفسها وتنطلق في نهضتها.
اما المماليك، فلم يعد لديهم ما يعنيهم سوى ابتزاز السكان وارهاقهم بالضرائب والرسوم والمصادرات. وحينما غزا “نابليون بونابرت” مصر في نهاية القرن الثامن عشر، كان التاريخ قد قرر مصيرهم النهائي. ولم يطل الوقت حتى أنفذه “محمد علي باشا”، الرجل المُجددُ في الشرق، الذي قام بمباشرة المهمة التاريخية في البلاد العربية والاسلامية: اسدال الستارة على عصر الفرسان القروسطيين واقطاعياتهم العسكرية العتيقة المُجزَّأة، وتدشين عهد بناء الدولة الصناعية الحديثة المُوحَّدة المستقلة.
وهي المهمة الضرورية، والمصيرية، التي ما زال يتعيَّن على العرب النضال لإنجازها في شروط العصر الجديدة.

الثورة أم الطغيان في محكمة المشروعية / اللامشروعية

أوت 20, 2011

الثورة أم الطغيان في محكمة المشروعية/اللامشروعية
مطاع صفدي

في قصة الثورة العربية، أنها وليدة القمع، هذا يثبت علمياً أن نهاية القمع تأتي من آليته عينها؛ ذلك أن طبيعة القمع هي من جنس اللامعقول الاجتماعي، فهي ظاهرة طارئة في أصلها. ولكن عندما يجعلها نظام الطغيان أداتَه المركزية والمستمرة، فإن القمع يتطوّر إلى جنون القمع. وهو الأمر الذي ترفضه عقلانية المجتمع، فيغدو القمع العدوَّ الأول لكلّية الشعب. ومن هنا كان كل طغيان محكوماً للانتحار الذاتي بوسيلة قمعه عينه. لذلك كان الطغيان، أخشى ما يخشاه، هو تظهير قمعه نتيجةَ تفعيله إلى الحدّ الذي يجهض فيه سياساته الأخرى، ولا يتبقَّى له سوى وجه الجلاد وسيفه وحده. تلك هي العزلة الحقيقية التي تأسر الطاغي، وتجعله غير معترف به إلا بمآثره الدموية المتمادية، في نظر الرأي العام من حوله، القريب والبعيد في آن معاً.
ما يعنيه تجريد الطاغية من المشروعية، لا يتضمن فقط سحب الثقة الدولية بسلطته، فذلك موضوع اعتباري متعلّق بمناكفات الدبلوماسية الدولية مابين القوى الكبرى والصغرى، ومواقعها في المؤسسات العالمية؛ فالأهم والأعمق من هذا الإجراء هو وضع الطاغية في موقع المطلوب من العدالة كخصم للحقّ العام. فالإدانة باللاإنسانية سابقة على الإدانة القانونية، وهي المصدر الأول لتسويغ أحكامها، الصادرة فيما بعد. وحين يشرع تاريخ الثورة العربية المعاصرة في مرحلة محاكمة الطغاة، لا بد له أن يُجري هذا التمييز الأنطولوجي، إن صح التعبير، بين مقاضاة الحقّ العام التي لا مكان لها إلا وجدان الشعب، وبين مقاضاة المحكمة العادية كمؤسسة دولانية، تتعامل مع مواصفات الأدلة المادية وحدها؛ وقد يكون لنوعيْ المقضاة هذين أحكام واحدة أو متشابهة في المحصلة.
إلا أنه فيما يتعلق بظروف الثورة العربية، المنتصرة أنصافَ انتصارات بعْدُ، كحالها في تونس ومصر، فقد يمكن ألا ترقى المحكمة العادية إلى مستوى ذلك التجريم المطلق لرؤساء الطغيان العربي.
ذلك أن النظامين القديمين، في هذين القطرين، ما زالا قائمين، وقابضين على معظم مؤسسات الدولة، بالتغلغل في دهاليزها العنكبوتية وفي التحفّظ على أسرارها ومفاتيحها. بينما الثورة شريدة في الشوارع، ولن تُفتح لها أبوابُ المكاتب البيروقراطية بسهولة قريباً؛ كيف يطمئن الثوار إلى أن خاطفي مصر من عروبتها وأهلها، لثلاثين عاماً، سوف يلقون العقاب الذي يستحقونه، إلا بدءاً من تحطيم تمثالهم الفرعوني الأخير الأكبر، على أن يتبعه تغيير هرم الاستبداد بكامله، بدءاً من تصحيح هندسته البنيانية عينها.
تقول النظرية الديمقراطية أنه لا مشروعيةَ لحاكم إنْ سَحَبَت غالبيةُ الشعب الثقةَ بسلطته. وحينما كان لايَسقط الحاكم العربي عادة إلا بالموت أو الإنقلاب، يأتي البرهان على فقدان مزدوج للمشروعية، متمثلٍ أصلاً في اغتصاب الطاغية للسلطة منذ البداية، ثم في استمرار احتلالها حتى النهاية. فأية محاكمة للطاغية الساقط، المحروم من سلطاته اللامشروع، لا يمكنها، مهما تمتعت بالنزاهة والصدقية القانونية، الإكتفاء بإصدار أحكامها باسم القانون وحده، إن لم تكن مشفوعة بالحكم القَبْلي الذي حقّقته الثورة عملياً، ما إن كسرت آلة القمع الجبارة التي كانت تحمي الديكتاتور. عندما أصدرت ‘محكمة نورمبورغ’ الدولية، إثر هزيمة ألمانيا النازية، العقوباتِ القصوى ضد أعوان هتلر، لم تكن تستند إلى حيثيات الأدلة القانونية، بقدر ما كانت تنطق أحكامها باسم وجدان الإنسانية عامة.
هذا لا يعني بالطبع أن محاكمات الطغاة لا تمتلك الأدلة حسب مصطلحها المهني القضائي، لكن المعنى (الأخلاقي) هو أنه ليس ثمة إدانة للقانون وحده، تكافئ نوع الجريمة المطلقة التي يرتكبها الطغيان، بحق مجتمعه وإنسانيته معاً. لكن ليس من المحتم أن يلقى كل طاغية عقابَه، سواء من قِبَل القانون أو من قِبَل الحق العام. فالثورة المنتصرة لا يهمها، من مقاضاة رموز العهد الساقط سوى التحوط ضد الردّات ومحاولات تحريف مسيرة الإصلاح التي هي رهان الثورة على صلاحتها في عين ذاتها، قبل إصدار تقييمات الآخرين معها أو ضدها. فالثورة التي تُسقط نظاماً متعسفاً فاسداً، متورّطة، شاءت أم أبت، في إنتاج نظام الصلاحة البديلة المنشودة. هذا الانتاج هو شرط مشروعيتها الجديدة الموصوفة بالإيجابية، والتي لن تضفيها الثورة على ذاتها، إلا بمقدار ما تحوز إنجازاتُها مصادقَةَ المجتمع على خياراتها، بعد تلمّس فوائدها العامة الفعلية.
ما يحدث لجولتيْ الثورة العربية في تونس والقاهرة، أنه مازال يُحال بينهما وبين تكوين مرجعية سلطوية لمشروعيتهما الوليدة. وقد يبدو أنهما منشغلتان، إلى أمد طويل، في مقارعة المشروعية القديمة الزائفة لدولة الطغيان والفساد. فهي المؤسسة القائمة فعلاً وواقعاً على كاهل المجتمع الذي لا يدري بعْدُ كيف ينزاح من تحت أعبائها الهائلة المترسّخة. من هنا تأخذ محاكمات رموز السلطة المنهارة، مع رأسيها الكبيريْن، شكْلَ مَسْرَحةٍ مستديمة في تظهير صراع الثورة مع أعدائها، سواء منهم الموقوفون وراء القضبان، أو الطلقاء الممارسون لشرورهم المعتادة في أنحاء البلاد ومؤسساتها.
صحيحٌ أن القانون المدني يحاكم الطغاة الساقطين كمجرمين، قتلة، ولصوص وخونة حتى، لكنه لن يستطيع أن يحيط بعهود كاملة لدول هؤلاء المجرمين. ماذا كان يعني أنه لمبارك وحاشيته أن يختطف دولة الخمسة والثمانين مليوناً لثلاثين عاماً.. فالطغيان العربي لم يكن يجد لذاته ثمة مشروعية إلا بقدر ما يلغي الشخصية الإعتبارية لمجتمعه؛ إذ لا يمكن للطاغي أن يتملَّك من كلّية المجتمع؛ مهما تجبّر واستبدَّ فإنه يحيل مجتمعه إلى مجرد احتياطي بشري ومعنوي يؤكد فرادنيته ولا يتهددها. فإن المجتمع المُكْره أو المُسْتَتبع للسيّد الحاكم بأمره، كأنه، إنما يزوده بفائض مستمر لسلطاته؛ بدلاً من أن يكون العدو الأول المفترض يصير حليفَه الموضوعي المفضل. ذلك أنه لن يكون للسلطة المطلقة من جدوى عملية، بدون أن تنقلب إلى هيمنة، يكون موضوعُها الدائم ابتزازَ الشعب للتنازل عن حرياته، مقابلَ أمنه الحياتي. فالأمر معكوسٌ أصلاً، إذ أن الطاغية هو العدو الأول الذي يُجْبر الشعب على التصالح المخادع معه؛ بذلك تُستكمل شروطُ الهيمنة كيما تُكْسِب صاحبَها المشروعيةَ المصنفة في عرف القانون الدولي في خانة قوى الأمر الواقع.
إذن، سوف يستمدّ الطاغية مشروعيته بالإكراه كأمر واقع، من مدى محافظته على معادلة الهيمنة/الطاعة، فقد تتيح هذه المشروعية الملتبسة، بل الزائفة، لصاحبها ما يشبه حقوقاً في ممارسته الاستبداد. وأولها (حق؟) القمع ضد الخارجين على الحاكم بأمره. ولقد اعتاد ‘المجتمع الدولي’ على اتباع مسلك المسامحة إزاء حركات القمع، الملازِمة لمختلف أنظمة الاستبداد الشرقي، عملاً بالقاعدة المعترف بها ضمنياً، القائلة أن الدولة القامعة تحتفظ بمشروعيتها مادامت محافظة على استقرارها، حسب المصطلح الدبلوماسي، أي بقدرتها على إجهاض إمكانيات كل تمرّد قبل انفجاره، بفضل الآلة البوليسية الجبارة، كما بقدرتها على قمع كل ظاهرة فعلية لتمرّد متحقق، بالقوة العسكرية المباشرة.
معارك المشروعية/اللامشروعية ليست من هوامش العلم السياسي، ولا هي من طلاسم الدبلوماسية الدولية. لكنها تمتح قواها وتجدّد حضورها، من/ومع كل صحوةٍ لإعصار الحريات المفقودة، والعائدة إلى مقدمة المسارح العالمية. كأن الصحوةَ الراهنة إنما تراهن على استعادة الحرية لمركزية دورها في كل مَفْهَمةٍ لمعضلات التغيير الاستراتيجي ذي الطبيعة الشمولية حول مصائر إنسانية القرن الواحد والعشرين. فالمشروعية حين تستأنف علاقتها بمعياريتها الأصلية التي هي الحرية وحدها، تنهار خرافات ‘المجتمع الدولي’ وتصنيفاته المصطنعة: فكيف، مثلاً، يسمح وجدانٌ إنساني ما، بإطلاق صفة المشروعية الدولية على دول الاستبداد، بحجّة تمتعها باستقرار (طغيانها)، وذلك باسم الأمن اليوليسي والعسكري وحده!
مقياس (الاستقرار) هذا تسبّب في إعطاب مرحلةٍ حزينة من مسيرة الاستقلال الوطني لدول العالم الثالث الموصوفة إجمالاً بسيطرة الأنظمة الديكتاتورية والتوتاليتارية، التي أجهضت بدورها كل رهانات التنمية السليمة لمجتمعاتها الفقيرة المتخلّفة. ولقد عانت منه حقبة الركود الطويلة التي سيطرت خاصة على خارطة السياسة العربية منذ انقضاء الحرب الباردة، واختفاء الإتحاد السوفييتي، حين سيطرت صيغة الزعامة الشخصانية، وكانت ابتدأت مع النموذج الكارزمي الموصوف بالصلاحة الوطنيةُ، حيثما منحت غالبية العرب مشروعيةَ هذه الزعامة لجمال عبد الناصر، باعتباره المحرر من بقايا الاستعمار القديم، والمقاوم لارتدادات الاستعمار الجديد. إنها نوع المشروعية الفريدة التي تمنحها الأُمم استثنائياً لقادتها التاريخيين؛ غير أن هذه الزعامة لا تتكرر. ولكن حاول معظم حكّام مابعد الناصرية أن ينسخوا عنها نماذج رديئة لم تنجح إلا في تكرار الجوانب السلبية من الزعامة التاريخية، متمثلة في صيغة أن يغدو الحكمُ غايةً مطلقة في ذاته. فقد مضى وانقضى عصر الاستثناء التاريخي، ولم يتبق إلا قاعدة السلطة المغتصبة لمشروعيتها الزائفة ضداً على إرادة الغالبية من شعوبها. ومارسها حكّام العرب جميعاً بكل صلافة وراحة البال عقوداً طويلة بائسة.
يمكن القول أن لحظة الاستثناء ذهبت ولن تعود، وأن لحظة القاعدة المستمرة بعدها، قد آذنت هي الأخرى بانقضائها. فما لم يفهمْه بعْدُ أباطرةُ الاستبداد والفساد، أنه بعد فقدان أية سلطة لمشروعيتها الشعبية، سوف يصبح أربابها ورموزها بمثابة المجرمين الخارجين على القانون، سواء المتشبث منهم بمقاعد الحكم، أو الفار من العدالة، أو القابع وراء القضبان.
النصر الأول والثابت حتى الآن للثورة العربية المتجددة هو أنها شرعت في بناء السلطة التنفيذية المفقودة، لمعارضةٍ فعليةٍ تمارس أحكام الإدانات القديمة المعلقة، ضد سلاطين الأمر الواقع. تُسْقِط عنهم آخر الذرائع المشروعية الكاذبة، بحيث لم تبق لديهم من مسوغات الحق الباطل بالطغيان المطلق، سوى وسيلة القمع الوحشي وحدها، إلى درجة شنّ حروب معلنة أو متوارية ضد شعوبها.
ليس من السهل أن تُنتزع عن الوحش الجبار كلٌّ أقنعته، من أشباه الإنسانيات الزائفة دفعة واحدة، لكن تعريتُه هكذا أمام الملأ الجماهيري الأعظم، بجسده المكتنز بلحم وشحم ضحاياه، وأنيابه ومخالبه الدامية تشكل أملاً عظيماً للشعوب المغدورة بنهضتها؛ ذلك إنجازٌ أشبه بدرس افتتاحي في علم التغيير الحقيقي، قد يؤذن باستعادة الشعب لمشروعيته المغتصبة، والتزام الثوار ليس النطق باسمها فحسب، بل في الانخراط النظامي، بتنفيذ احكامها ضد سُرَّاقها القدامى المنهارين، والحيلولة دون مداهمة أولئك السُرَّاق الجدد المهرولين إلى عرينها من كل حدب وصوب.
إنها ثقافة المشروعية الثورية قبل السلطة وفوق كل عروشها المتهاوية منها، والآتية بعدها.

من ربيع دمشق الذي كان .. إلى ربيع دمشق الآتي

أوت 20, 2011

على بساط الثلاثاء
125
يكتبها : حبيب عيسى

من ربيع دمشق الذي كان …
إلى ربيع دمشق الآتي …

– منذ عقد من الزمان بدأ حلم يراودني بربيع عربي ينطلق من دمشق يزهر فيه الياسمين والعوسج واللوتس وينتشر عطر العود الحضرمي في دنيا العرب ، وفي الربيع يطيب الغناء وتغرد الطيور لتمحوا من الذاكرة ضجيج أعاصير شتاء قارس ، يومها تفتحت المنتديات كالأزاهير ، تحتضن شباب بعمر الورود إلى جانب شيوخ تجددت أحلامهم بغد مختلف ، وللمرة الأولى منذ عقود ارتفعت الأصوات بالرأي الحقيقي لإصحابها بدون زيف ، بتصادق قل نظيره ، بتسامح ، ودعوة للحوار ، والكلمة السواء بين الجميع دون إقصاء أو استئصال أو استئثار أو تهميش ، يومها جرفني الحلم معه ، وكان ماكان ، لكن لم يكن الربيع حلماً للبعض على مايبدو ، كان بالنسبة إليهم كابوساً ، في ليلة ليلاء ، وقبيل فجر 12/أيلول/ 2001 اقتحمت منزلي قوة مسلحة ووضعت العصابة على عيني واقتادتني إلى حيث لا أدري ، والحكاية ذات شجون ، المهم أن الحال استقر بي أخيراً في زنزانة منفردة إلى أن جاءت الساعة الثانية عشرة من يوم 18/كانون الثاني/ 2006 عندما فوجئت بالسجان يفتح باب الزنزانة ، ويلقي بي خارجاً ، على الفور أمسكت قلمي الذي لا أملك سلاحاً سواه كي أثأر لنفسي ، فكتبت كلمات قليلة نشرها مرصد حقوق الإنسان يومها ، الآن ، بالضبط الآن ، بي رغبة جامحة كي أصرخ بها من جديد ، وهذا هو النص بالحرف الواحد :
“على عتبات زنزانة”
( – أنا أمسك القلم بيدي للمرة الأولى .. على عتبة الزنزانة مغادراً إلى وطنٍ لم يعد أهله يطيقون حياة الزنازين ، والخوف ، والقهر.
– على عتبة الزنزانة مغادراً، استحضرت ذاكرتي كل ما كنت أقوله على عتبتها ، لأحشر فيها تلك الليالي الطويلة .. فماذا سأقول الآن؟
– إن قلت إنني سأردد ما كنت أقوله على عتبتها داخلاً ، فهذا يعني هدراً لسنوات طويلة من عمري قضيتها في تلك المساحة الضيقة التي أرادوها قيداً على الحرية ، وأردتها صومعة للتأمل والتفكير ، وإعادة النظر في سنوات طواها الزمن من عمري ، حافلة بكل ما يخطر على البال من مآس ، وأهوال .. وهزائم كثيرة، وانتصارات قليلة ..
– لا .. لم تكن سنوات الزنزانة هدراً .. لقد علمتني أن الإنسان عامة، والعربي خاصة عندما يُدفع إلى الولوج في بطن الزنزانة ، يُشبه إلى حدٍ بعيد قطعة الحديد التي ترمى في كور النار لتشتعل ، وتتورد ، وبقدر ما تزداد النيران تأججاً بقدر ما تخترق دواخلها ، فتتفحم الخلايا الضعيفة ، وتصبح رماداً ، بينما تتفولذ الفلزات ، وتتخلص من الشوائب .. لكن هذا لا يغير أبداً .. أبداً .. من طبيعة تلك الفلذات ، بل ينقلها إلى حالة فيها المزيدٍ من التوهج ، والصلابة .. لهذا ، فقد تكون الزنازين من أهم الامتحانات في الحياة البشرية .. ولهذا .. فإنني أدعو الجميع بين المحيط والخليج إلى التخلص نهائياً من الخوف منها، إنني لا أدعو أحد إلى دخولها ، لكنني أدعوا بصدق إلى عدم الخوف منها .. إذا لم يكن منها بد .. فلندخلها بشجاعة .. والأهم أن نغادرها ، ونحن أكثر شجاعة .. وأشد مضاء ، وصلابة .. لقد اعتمدت بعض الشعوب يوم اقتحام السجون السياسية فيها عيداً وطنياً لها .. أنا أقول الآن ، أن الطريق إلى الحرية في وطن العرب يمر عبر اقتحام السجون .. وعندما تضيق السجون بالنزلاء ستتحطم القضبان لمرةٍ واحدة وأخيرة ، وتتفتح أزهار الحرية في أرجاء الوطن ..
– بصدقٍ أقول ، أنني غادرت الزنزانة ، أو دُفعت إلى مغادرتها ، وفي قلبي غصة وحرقة .. لقد تركت ورائي إخوةً أحبة أعزاء كنت قد قررت عند دفعي إلى الزنزانة ، أنني سأكون آخر معتقل سياسي في سورية ، ثم سأنشر هذا الحلم بين المحيط والخليج .. لكن السلطات في الوطن العربي عاجزة على مايبدو عن تحقيق أي حلمٍ مهما كان … حتى هذا الحلم حرموني من تحقيقه . ولعل السؤال الذي يفرض نفسه : – هل ما زال الاعتقال السياسي أسلوباً مقبولاً في هذه المرحلة التاريخية من تطور البشرية ؟.،أما آن لهذا التوحش أن ينتهي ..؟ ، هل ُيعقل أن نحيا بحريةٍ وكرامة ، ووراء القضبان أخوة وأعزاء لم يعتقلوا لأي سبب شخصي ولكن اعتقلوا من أجل حرية الوطن ؟.
– إن أقسى اللحظات مرارة تمر بالسجين السياسي ، هي تلك التي يشعر بها أن الشعب الذي ُيضحي من أجله لا يوليه الاهتمام اللازم ، لا يحتضن أحلامه ، لا يحاصر سجانه .. ويلٌ لشعب لا يكرم مناضليه ، وينصر فرسانه الذين يدفعون حريتهم ثمناً لحريته ..
– على أعتاب الزنزانة داخلاً كنت أدعوا إلى الحوار .. وعلى أعتاب الزنزانة مغادراً ما زلت أدعو إلى الحوار .. والحوار لا يبنى إلا على التصادق .. والصدق عند العرب أصيل يرتبط بتطورهم الحضاري، والتكاذب عند العرب ذميم، ويرتبط بانحطاطهم ، وهزائمهم ،وكوارثهم.
– لقد بنى العرب أول دولة في التاريخ عمادها الأساسي الصدق بينما كانت الإمبراطوريات في العصور السالفة تقوم على الجيوش والقوة الباطشة ..
أشاد العرب في (صور) دولة عمادها الأساسي هو الصدق .. كانت تفاخر على همجية القتل والبطش بأن تفتخر .. أنه لا يوجد في “دولة صور” كذوب واحد .. هكذا من اليمن إلى بر الشام إلى بلاد النهرين إلى النيل العظيم وفاس وقرطاج .. وعندما كان ينهار عماد التصادق ، كان كل شيء ينهار ..
– وعندما أراد سبحانه وتعالى أن يوحي للبشر، ولا راد لإرادته، اختار رجالاً من العرب لحمل رسالة الوحي والهداية للإنسانية في تتابع تاريخي بالغ الدلالة .. كلما اشتدت المحن .. أن عودوا إلى الصدق والتصادق .. وإلى الصراط المستقيم .. وصولاً إلى الصادق الأمين .. واستمراراً حتى هذه اللحظة الحاسمة من تاريخنا حيث الوجود مهدد في الصميم .. وحيث لا مخرج للخروج من المأزق إلا باستلهام روح الإبداع ، والصدق، والشجاعة، والمرؤة ..
– إنني أدعوا إلى التسامح ، وإنني لا أحمل أية أحقاد من أي نوع ، حتى للسجان ، لكنني في الوقت ذاته أشد تصميماً على أن من حق شعبنا أن ينعم بالحرية ، والجهر بالرأي ، والتشارك في صنع القرار، وأن من حق الشعب وحده أن يقرر من يمثله ومن لا يمثله ، لم أعد أطيق الصمت ، والمخاتلة ، والمداراة ، ولم أعد أطيق أي شكل من أشكال العمل السري ، أو القول السري ، أو الأفكار السرية، أريد أن أجهر برأيي، أن أصرخ بكل ما أراه .. أريد أن نبحث في دواخلنا عن رموزٍ للحرية .. عن رموزٍ للتقدم .. الوطن الآن مهدد ، ولا يحميه ، إلا شعبٌ حر .. كل فردٍ فيه يشعر أنه رمز لهذا الوطن .. وعندما نتحول إلى شعب من الرموز .. ستتبرعم أزهار الحرية وستثمر …
هل قلت كل ما أريد قوله ..؟
– لا .. لم أبدأ بعد .. في جعبتي الكثير مما حملته من زنزانتي (الصومعة) التي كنت أنشر حولها رائحة البخور والنعناع والزعتر .. فقط أردت أن أقول .. أنني أشعر باعتزاز وفخر لا حدود له ، ولجت عتبة الزنزانة بشجاعة يشوبها تخوف على أسرةٍ وأولادٍ ما زالوا في مرحلة التبرعم ، وتخوّفٍ على أصدقاءٍ ، وأخوةٍ ، وأعزاء ، ونهجٍ في الحوار والتصادق ، لم يتصلب عوده بعد .. لكنني وجدت نفسي على عتبة الزنزانة مغادراً ، وأنا بشجاعةٍ لا يشوبها التخوف ،الأسرة بخير .. الوطن رغم المحن بخير ، تركت عشرات الأصدقاء .. عندما عدت وجدتهم مئات ، آلاف .. لم ُأهزم.
– إذن لم يهزمني السجان .. لكنني لم أتمكن من إقناعه بعد أن يُغلق سجونه .. هو يريد هزيمتي .. أنا لا أريد هزيمته .. أنا أريد إقناعه أن الطريق الوحيدة هي الحوار .. الحوار .. وأن السجون لم تعد مجدية .. لم تعد مجدية .. هل يمكن أن يتعلم قبل فوات الأوان.
– هكذا خطت يدي الكلمة الأولى على أعتاب الزنزانة مغادراً .. وهكذا كان يجب أن تكون لمرصد جمعية حقوق الإنسان .. تحية للقائمين عليها، ولمرصدها الذي أرجو أن يتحول لمنارة للحرية يرى من خلاله شعبنا كل الحقائق كما هي.) .
عتبات الزنزانة – دمشق : 19/1/ 2006
– الآن ، وبعد أن أشعل البوعزيزي شعلة ربيع العرب من جديد في أرض قرطاج ، أكرر ماقلته ، أن السجون لم تعد مجدية ، ومن باب أولى ، أن القتل لن يؤدي إلا إلى القتل ، المواطن الآن لايريد أن يقف بين خيارين ، إما قاتلاً أوقتيلاً ، ولكنه يحلم بالحياة له وللآخر ، بالحرية له وللآخر ، فهل هذا كثير علينا أيها السادة ؟؟؟!!!